في الليلة التي أكملتُ فيها عامي الثالث والثلاثين، كنتُ أودُّ الحديثَ عن الكآبةِ التي انتابتني، عن الألم الذي أحياه، عن الأحلام التي تسرَّبت من بين أصابعي هكذا، هكذا، بكل بساطة.
عن حياتي، وأيامي التي هي أشبه بطرقات فأسٍ على رأسي، كل الأيام...
عن سُعال أبي الذي ينتظر موته في أي لحظة، وعن حماقةِ أمي وملاحقتها لي بلسانها الَّلاذع، وعن إحساسها المفقود بأي ألم تسببه لي كلماتها الجارحة.
عن وزني، عن ثقتي المفقودة بنفسي، وعن القطار الذي-ربما- فاتني أو- ربما- أنا التي فوَّته، وعما أحسُّه من وحدةٍ وحصار.
عن أوقاتي المقيَّدة بأوقاتِ الآخرين، وعن الانتظار الذي أصبحَ صنعتي، والحرفةُ التي أبرعُ فيها كما لم يفعل أحدٌ يوماً.
عن طموحي المكسور، ورغبتي في مترٍ مربع واحد يكون لي أنا-ربما يكون بديلاً عن حضن- بعيداً عن أي ضجيج أو نظرات ترنو إلي شزراً.
عن الهواء الذي يتناقص، عن اختناقي، واحتراق رئتي بالدُّخان الذي أنفثهُ بوحشيةٍ.
عن ثلاثة وثلاثين عاماً ضاعوا عبثاً، في سذاجات لا تنتهي، عن الصَّليب، وإكليلِ الشَّوك والخلِّ الذي ارتويه على عطشٍ.
عن يسوع الذي تركني، عن دموعي التي أعجب لها كيف ما زالت تنبع من المآقي.
أما حان موعد رحيلي أيها المصلوب؟ ألم يكن لكَ من العمر ثلاثة وثلاثين عاماً عندما صعدتَ إلى السَّماء؟
خذني إليكَ إذنْ، لا يَهم إلى يمينكَ أو إلى شِمالك، المهم خلِّصني من عذاباتِ الأرض كلِّها...
كان هذا بعض مما كنت أودُّ الحديث عنه في تلك الليلة، إلا أن ثمة انحرافاتٌ حصلت...
دوماً يأتي لينتشلني من العدم، ينقذني من تعذيبي لنفسي، ومن صراعٍ بين العقلِ والعاطفة.
هذا الصِّراعُ الدَّموي الذي ينتهي دوماً بسقوطِ العقلِ في يأسٍ وحَيرةٍ، ويستسلم أمامَ اندفاعِ عاطفتي المهووسة.
حقاً إني أشفق لحالك يا عقلي الصغير!
كنتُ قد تحدثتُ مع نفسيَ الأخرى واتَّفقنا آخرَ مرةٍ أن نكفَّ عن اقتحامِ أوقاتهِ، فهذا لا يجوز ويجب التَّروي دوماً، فأنا بالرَّغم من أني أشتاقُ للحديثِ معهُ وتغمرني سعادةٌ لا توصف بسماع صوته الرَّقيق، إلا أن الحزنَ رفيقٌ ملازمٌ لهذه السعادة.
فالحديث لا بد له أن ينتهي في لحظة ما، ضرورية...
لم ألتزم بالاتفاق وفي ليلةٍ، فجأةً وبغيرِ واردْ، أمسكتُ بالهاتف، غير أنه لم يُجبْ، كررتُ المحاولة مراراً ولم يستجب، إلا أني استمريت في المحاولة حتى التَّعب...
نمت وعلى مخدتي انهمرت دموع، دموع حزنٍ، لومٍ، أسىً وأسف.
غفوتُ وفي رأسي يصرخُ صوتٌ يقول: من أنتِ، لكي تكوني فكرة من أفكارهِ؟
وصوتٌ آخر يجيب: من هوَ، لكي يفعل بي ما يفعل؟
في اليوم التالي أي في يوم ميلادي، وبينما أنا أشغل نفسي بأمور الحياة اليومية كي أسْلو عن التَّفكير بهِ، وإذ هوَ يُناديني!
نعم، أنا على وشك أن أقول بأني سعيدة!
أسرقُ من السَّعادةِ بعض فُقاعاتٍ، تنفجرُ عندما يبدأ الشَّوق بإعمالِ أشواكه في قلبي، والشوق لا ينتظر طويلاً...